الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ **
لّما مات الراضي بالله بقي الأمر في الخلافة موقوفًا انتظارًا لقدوم أبي عبد الله الكوفي كاتب بجكم من واسط وكان بجكم بها. واحتيط على دار الخلافة فورد كتاب بجكم مع الكوفي يأمر فيه بأن يجتمع مع أبي القاسم سليمان بن الحسن وزير الراضي كل من تقلد الوزارة وأصحاب الدواوين والعلويون والقضاة والعباسيون ووجوه البلد ويشاورهم الكوفي فيمن ينصب للخلافة ممن يرتضي مذهبه وطريقته فجمعهم الكوفي واستشارهم فذكر بعضهم إبراهيم بن المقتدر وتفرقوا على هذا فلما كان الغد اتفق الناس عليه فأحضر في دار الخلافة وبويع له في العشرين من ربيع الأول وعرضت وكان بجكم بعد موت الراضي وقبل استخلاف المتقي قد أرسل إلى دار الخلافة فأخذ فرشًا وآلات كان يستحسنها وجعل سلامة الطولوني حاجبه وأقر سليمان على وزارته وليس من الوزارة إلا اسمها وإنما التدبير كله إلى الكوفي كاتب بجكم.
قد ذكرنا مسير أبي علي بن محمد بن المظفر بن محتاج إلى جرجان وإخراج ما كان عنها فلما سار عنها ما كان قصد طبرستان وأقام بها وأقام أبو علي بجرجان يصلح أمرها ثم استخلف عليها إبراهيم بن سيمجور الدواتي وسار نحو الري في المحرم من هذه السنة فوصلها في ربيع الأول وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج. وكان عماد الدولة وركن الدولة ابنا بويه يكاتبان أبا علي ويحثانه على قصد وشمكير ويعدانه المساعدة وكان قصدهما أن تؤخذ الري من وشمكير فإذا أخذها أبو علي لا يمكنه المقام بها لسعة ولايته بخراسان فيغلبان عليها. وبلغ أمر اتفاقهم إلى وشمكير. وكاتب ما كان بن كالي يستخدمه ويعرفه الحال فسار ما كان بن كالي من طبرستان إلى الري وسار أبو علي وأتاه عسكر ركن الدولة بن بويه فاجتمعوا معه بإسحاقاباذ والتقوا هم ووشمكير ووقف ما كان بن كالي في القلب وباشر الحرب بنفسه وعبأ أبو علي أصحابه كراديس وأمر من بإزاء القلب أن يلحوا عليهم في القتال ثم يتطاردوا لهم ويستجروهم ثم وصى من بأزاء الميمنة والميسرة أن يناوشوهم مناوشة بمقدار ما يشغلونهم عن مساعدة من في القلب ولا يناجزوهم ففعلوا ذلك. وألح أصحابه على قلب وشمكير بالحر ثم تطاردوا لهم فطمع فيهم ما كان ومن معه فتبعوهم وفارقوا مواقفهم فحينئذ أمر أبو علي الكراديس التي بإزاء الميمنة والميسرة أن يتقدم بعضهم ويأتي من في قلب وشمكير من ورائهم ففعلوا ذلك فلما رأى أبو علي أصحابه قد أقبلوا من وراء ما كان ومن معه من أصحابه أمر المتطاردين بالعود والحملة على ما كان وأصحابه وكانت نفوسهم قد قويت بأصحابهم فرجعوا وحملوا على أولئك وأخذهم السيف من بين أيديهم ومن خلفهم فولوا منهزمين. فلما رأى ما كان ذلك ترجل وأبلى بلاء حسنًا وظهرت منه شجاعة لم ير الناس مثلها فأتاه سهم غرب فوقع في جبينه فنفذ في الخوذة والرأس حتى طلع من قفاه وسقط ميتًا وهرب وشمكير ومن سلم معه إلى طبرستان فأقم بها واستولى أبو علي على الري وأنفذ رأ ما كان إلى بخارى والسهم فيه ولم يحمل إلى بغداد حتى قتل بجكم لأن بجكم كان من أصحابه وجلس للعزاء لما قتل فلما قتل بجكم حمل الرأس من بخارى إلى بغداد فيه وفي الخوذة وأنفذ أبو علي الأسرى إلى بخارى أيضًا وكانوا بها حتى دخل وشمكير في طاعة آل سامان وسار إلى خراسان فاستوهبهم فأطلقوا له على ما نذكره سنة ثلاثين.
وفي هذه السنة قتل بجكم. وكان سبب قتله أن أبا عبدالله البريدي أنفذ جيشًا من البصرة إلى مذار فأنفذ بجكم جيشًا إليهم عليهم توزون فاقتتلوا قتالًا شديدًا كان أولًا على توزون فكتب إلى بجكم يطلب أن يلحق به فسار بجكم إليهم من واسط منتصف رجب فلقيه كتاب توزون بأنه ظفر بهم وهزمهم فأراد الرجوع إلى واسط فأشار عليه بعض أصحابه بأن يتصيد فقبل منه وتصيد حتى بلغ نهر جور فسمع أن هناك أكرادًا لهم مال وثروة فشرهت نفسه إلى أخذه فقصدهم في قلة من أصحابه بغير جنة تقية فهرب الأكراد من بين يديه ورمى هو أحدهم فلم يصه فرمى آخر فأخطأه أيضًا وكان لا يخيب سهمه فأتاه غلام من الأكراد من خلفه وطعنه في خاصرته وهو لا يعرفه فقتله وذلك لأربع بقين من رجب واختلف عسكره فمضى الديلم خاصة نحو وكان البريدي قد عزم على الهرب من البصرة هو وإخوته وكان بجكم قد راسل أهل البصرة وطيب قلوبهم فمالوا إليه فأتى البريديين الفرج من حيث لم يحتسبوا وعاد أتراك بجكم إلى واسط وكان تكينك محبوسًا بها حبسه بجكم وأخرجوه من محبسه فسار بهم إلى بغداد وأظهروا طاعة المتقي لله. وصار أبو الحسين أحمد بن ميمون يدبر الأمور واستولى المتقي على دار بجكم فأخذ ماله منها وكان قد دفن فيها مالًا كثيرًا وكذلك أيضًا في الصحراء لأنه خاف أن ينكب فلا يصل إلى ماله في داره. وكان مبلغ ما أخذ من ماله ودفائنه ألف ألف دينار ومائتي ألف دينار وكانت مدة إمارة بجكم سنتين وثمانية أشهر وتسعة أيام.
لما قتل بجكم اجتمعت الديلم على بلسواز بن مالك بن مسافر فقتله الأتراك فانحدر الديلم إلى أبي عبدالله البريدي وكانوا منتخبين ليس فيهم حشو فقوي بهم وعظمت شوكته فأصعده من البصرة إلى واسط في شعبان فأرسل المتقي لله إليهم يأمرهم أن لا يصعدوا فقالوا: نحن محتاجون إلى مال فإن أنفذ لنا منه شيء لم نصعد فأنفذ إليهم مائة ألف وخمسين ألف دينار فقال الأتراك للمتقي: نحن نقاتل بني البريدي فأطلق لنا مالًا وانصب لنا مقدمًا فأنفق فيهم مالًا وفي أجناد بغداد القدماء أربعمائة ألف دينار من المال الذي أخذ لبجكم وجعل عليهم سلامة الطولوني وبرزوا مع المتقي لله إلى نهر ديالي يوم الجمعة لثمان بقين من شعبان. وسار البريدي من واسط إلى بغداد ولم يقف على ما استقر معه فلما قرب من بغداد اختلف الأتراك البجكمية واستأمن بعضهم إلى البريدي وبعضهم سار إلى الموصل واستتر سلامة الطولوني وأبو عبدالله الكوفي ولم يحصل الخليفة إلا على إخراج المال وهم أرباب النعم والأموال بالانتقال من بغداد خوفًا من البريدي وظلمه وتهوره. ودخل أبو عبدالله البريدي بغداد ثاني عشر رمضان ونزل بالشفيعي ولقيه الوزير أبو الحسين والقضاة والكتاب وأعيان الناس وكان معه من أنواع السفن ما لا يحصى كثرةً فأنفذ إليه المتقي يهنيه بسلامته وأنفذ إليه طعامًا وغيره عدة ليال وكان يخاطب بالوزير وكذلك أبو الحسين بن ميمون وزير الخليفة أيضًا ثم عزل أبو الحسين وكانت مدة وزارة أبي الحسين ثلاثة وثلاثين يومًا ثم قبض أبو عبدالله البريدي على أبي الحسين وسيره إلى البصرة وحبسه بها إلى أن مات في صفر سنة ثلاثين وثلاثمائة من حمى حادة. ثم أنفذ البريدي إلى المتقي يطل خمسمائة ألف دينار ليفرقها في الجند فامتنع عليه فأرسل إليه يتهدده ويذكره ما جرى على المعتز والمستعين والمهتدي وترددت الرسل فأنفذ إليه تمام خمسمائة ألف دينار ولم يلق البريدي المتقي لله مدة مقامه ببغداد.
كان البريدي يأمر الجند بطلب الأموال من الخليفة فلما أنفذ الخليفة إليه المال المذكور انصرفت أطماع الجند عن الخليفة إلى البردي وعادت مكيدته عليه فشغب الجند عليه وكان الديلم قد قدموا على أنفسهم كورتكين الديلمي وقدم الأتراك على أنفسهم تكينك التركي غلام بجكم وثار الديلم إلى دار البريدي فأحرقوا دار أخيه أبي الحسين التي كان ينزلها ونفروا عن البريدي وانضاف تكينك إليهم وصارت أيديهم واحدة واتفقوا على قصد البريدي ونهب ما عنده من الأموال فساروا إلى النجمي ووافقهم العامة فقطع البريدي الجسر ووقعت الحرب في الماء ووثب العامة بالجانب الغربي على أصحاب البريدي فهرب هو وأخوه وابنه أبو القاسم وأصحابه وانحدروا في الماء إلى واسط ونهبت داره في النجمي ودور قواده وكان هربه سلخ رمضان وكانت مدة مقامه أربعة وعشرين يومًا. لما هرب البريدي استولى كورتكين على الأمور ببغداد ودخل إلى المتقي لله فقلده إمارة الأمراء وخلع عليه واستدعى المتقي علي بن عيسى وأخاه عبد الرحمن بن عيسى فأمر عبد الرحمن فدبر الأمر من غير تسمية بوزارة ثم إن كورتكين قبض تكينك التركي خامس شوال وغرقه وتفرد بالأمر ثم أن العامة اجتمعوا يوم الجمعة سادس شوال وتظلموا من الديلم ونزولهم في دورهم فلم ينكر ذلك فمنعت العامة الخطيب من الصلاة واقتتلوا هم والديلم فقتل من الفريقين جماعة.
في هذه السنة عاد أبو بكر محمد بن رائق من الشام إلى بغداد وصار أمير الأمراء. وكان سبب ذلك أن الأتراك البجكمية لما ساروا إلى الموصل لم يروا عند ابن حمدان ما يريدون فساروا نحو الشام إلى ابن رائق وكان فيهم من القواد توزون وخجخج ونوشتكين وصيغون فلما وصلوا إليه أطمعوه في العود إلى العراق ثم وصلت إليه كتب المتقي يستدعيه فسار من دمشق في العشرين من رمضان واستخلف على الشام أبا الحسن أحمد بن علي بن مقاتل فلما وصل إلى الموصل تنحى عن طريقه ناصر الدولة بن حمدان فتراسلا واتفقا على أن يتصالحا وحمل ابن حمدان إليه مائة ألف دينار وسار ابن رائق إلى بغداد فقبض كورتكين على القراريطي الوزير واستوزر أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي في ذي القعدة وكانت وزارة القراريطي ثلاثة وأربعين يومًا وبلغ خبر ابن رائق إلى أبي عبدالله البريدي فسير إخوته إلى واسط فدخلوها وأخرجوا الديلم عنها وخطبوا له بواسط وخرج كورتكين عن بغداد إلى عكبرا ووصل إليه ابن رائق فوقعت الحرب بينهم واتصلت عدة أيام. فلما كان ليلة الخميس لتسع بقين من ذي الحجة سار ابن رائق ليلًا من عكبرا هو وجيشه فأصبح ببغداد فدخلها من الجانب الغربي هو وجميع جيشه ونزل في النجمي وعبر من الغد إلى الخليفة فلقيه وركب المتقي لله معه في دجلة ثم عاد ووصل هذا اليوم بعد الظهر كورتكين مع جميع جيشه من الجانب الشرقي وكانوا يستهزئون بأصحاب ابن رائق ويقولون: أين نزلت هذه القافلة الواصلة من الشام ونزلوا بالجانب الشرقي. ولما دخل كورتكين بغداد أيس ابن رائق من ولايتها فأمر بحمل أثقاله والعود إلى الشام فرفع الناس أثقالهم ثم إنه عزم أن يناوشهم شيئًا من قتال قبل مسيره فأمر طائفة من عسكره أن يعبروا دجلة ويأتوا الأتراك من ورائهم ثم إنه ركب في سميرية وركب معه عدة من أصحابه في عشرين سميرية ووقفوا يرمون الأتراك بالنشاب. وصل أصحابه وصاحوا من خلفهم واجتمعت العامة مع أصحاب ابن رائق يضجون فظن كورتكين أن العسكر قد جاءه من خلفه ومن بين يديه فانهزم هو وأصحابه واختفى هو ورجمهم العامة بالآجر وغيره. وقوي أمر ابن رائق وأخذ من استأمن إليه من الديلم فقتلهم عن آخرهم وكانوا نحو أربعمائة فلم يسلم منهم غير رجل واحد اختفى بين القتلى وحمل معهم في الجواليق وألقي في دجلة فسلم وعاش بعد ذلك دهرًا وقتل الأسرى من قواد الديلم وكانوا بضعة عشر رجلًا وخلع المتقي على ابن رائق وجعله أمير الأمراء وأمر أبا جعفر الكرخي بلزوم بيته وكانت وزارته ثلاثة وثلاثين يومًا واستولى أحمد الكوفي على الأمر فدبره ثم ظفر ابن رائق بكورتكين فحبس بدار الخليفة.
في هذه السنة كان بالعراق غلاء شديد فاستسقى الناس في ربيع الأول فسقوا مطرًا قليلًا لم يجر منه ميزاب ثم اشتد الغلاء والوباء وكثر الموت حتى كان يدفن الجماعة في القبر الواحد ولا يغسلون ولا يصلى عليهم ورخص العقار ببغداد والأثاث حتى بيع ما ثمنه دينار بدرهم. وانقضى تشرين الأول وتشرين الثاني والكانونان وشباط ولم يجيء غير المطرة التي عند الاستسقاء ثم جاء المطر في آذار ونيسان. وفيها في شوال استوزر المتقي لله أبا إسحاق محمد بن أحمد الإسكافي المعروف بالقراريطي بعد عود بني البريدي من بغداد وجعل بدرًا الخرشني حاجبه فبقي وزيرًا إلى الخامس والعشرين من ذي القعدة فقبض عليه كورتكين وكانت وزارته ثلاثة وأربعين يومًا واستوزر بعده أبا جعفر محمد بن القاسم الكرخي فبقي وزيرًا إلى الثامن والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة فعزله ابن رائق لما استولى على الأمور ببغداد فكانت وزارته اثنين وثلاثين يومًا ودبر الأمور أبو عبدالله الكوفي كاتب ابن رائق من غير تسمية بوزارة. وفيها عاد الحجاج إلى العراق ولم يصلوا إلى المدينة بل سلكوا الجادة بسبب طالبي ظهر بتلك الناحية وقوي أمره. وفيها كثرت الحميات ووجع المفاصل في الناس ومن عجل الفصاد بريء وإلا طال مرضه. وفي أيام الراضي توفي أبو بشر أخو متى بن يونس الحكيم الفيلسوف وله تصانيف في شرح كتب أرسطاطاليس. وفيها في ذي الحجة مات بختيشوع بن يحيى الطبيب. وفيها مات محمد بن عبدالله البلغمي وزير السعيد نصر بن أحمد صاحب خراسان وكان من عقلاء الرجال وكان نصر قد صرفه عن وزارته سنة ست وعشرين وثلاثمائة وجعل مكانه محمد بن محمد الجيهاني. وفيها توفي أبو كر محمد بن المظفر بن محتاج ودفن بالصغانيان وأبو محمد الحسن بن علي بن خلف البربهاري رئيس الحنابلة توفي مستترًا ودفن في تربة نصر القشوري وكان عمره ستًا وسبعين سنة.
في هذه السنة وزر أبو عبدالله البريدي للمتقي لله. وكان سبب ذلك أن ابن رائق استوحش من البريدي لأنه أخر حمل المال وانحدر إلى واسط عاشر المحرم فهرب بنو البريدي إلى البصرة وسعى لهم أبو عبدالله الكوفي حتى عادوا وضمنوا بقايا واسط بمائة وتسعين ألف دينار وضمنوها كل سنة بستمائة ألف دينار. وعاد ابن رائق إلى بغداد فشغب الجند عليه ثاني ربيع الآخر وفيهم توزون وغيره من القواد ورحلوا في العشر الآخر من ربيع الآخر إلى أبي عبدالله البريدي بواسط فلما وصلوا إليه قوي بهم فاحتاج ابن رائق إلى مداراته فكاتب أبا عبدالله البريدي بالوزارة وأنفذ له الخلع واستخلف أبا عبدالله بن شيرزاد ثم وردت الأخبار إلى بغداد بعزم البريدي على الإصعاد إلى بغداد فأزال ابن رائق اسم الوزارة عنه وأعاد أبا إسحاق القراريطي ولعن بني البريدي على المنابر بجانبي بغداد.
وسير أبو عبدالله البريدي أخاه أبا الحسين إلى بغداد في جميع الجيش من الأتراك والديلم وعزم ابن رائق على أن يتحصن بدار الخليفة فأصلح سورها ونصب عليه العرادات والمنجنيقات وعلى دجلة وانهض العامة وجند بعضهم فثاروا في بغداد وأحرقوا ونهبوا وأخذوا الناس ليلًا ونهارًا. وخرج المتقي لله وابن رائق إلى نهر ديالي منتصف جمادى الآخرة ووافاهم أبو الحسين عنده في الماء والبر واقتتل الناس وكانت العامة على شاطئ دجلة في الجانبين يقاتلون من في الماء من أصحاب البريدي وانهزم أهل بغداد واستولى أصحاب البريدي على دار الخليفة ودخلوا إليها في الماء وذلك لتسع بقين من جمادى الآخرة وهرب المتقي وابنه الأمير أبو منصور في نحو عشرين فارسًا ولحق بهما ابن رائق في جيشه فساروا جميعًا نحو الموصل واستتر الوزير القراريطي وكانت مدة وزارته الثانية أربعين يومًا وإمارة ابن رائق ستة أشهر وقتل أصحاب البريدي من وجدوا في دار الخليفة من الحاشية ونهبوها ونهبوا دور الحرم. وكثر النهب في بغداد ليلًا ونهارًا وأخذوا كورتكين من حبسه وأنفذه أبو الحسين إلى أخيه بواسط فكان آخر العهد به ولم يتعرضوا للقاهر بالله ونزل أبو الحسين بدار مؤنس التي يسكنها ابن رائق وعظم النهب فأقام أبو الحسين توزون على الشرطة بشرقي بغداد وجعل نوشتكين على شركة الجانب الغربي فسكن الناس شيئًا يسيرًا وأخذ أبو الحسين البريدي رهائن القواد الذين مع توزون وغيره وأخذ نساءهم وأولادهم فسيرهم إلى أخيه أبي عبدالله بواسط.
لما استولى على بغداد أخذ أصحابه في النهب والسلب وأخذ الدواب وجعلوا طلبها طريقًا إلى غيرها من الأثاث وكبست الدور وأخرج أهلها منها ونزلت وعظم الأمر وجعل على كر من الحنطة والشعير وأصناف الحبوب خمسة دنانير وغلت الأسعار فبيع كر الحنطة بثلاثمائة وستة عشر دينارًا والخبز الخشكوار رطلين بقيراطين صحيح أميري وحبط أهل الذمة وأخذ القوي بالضعيف وورد من الكوفة وسوادها خمسمائة كر من الحنطة والشعير فأخذه جميعه وادعى أنه للعامل بتلك الناحية. ووقعت الفتن بين الناس فمن ذلك أنه كان معه طائفة من القرامطة فجرى بينهم وبين الأتراك حرب قتل فيها جماعة وانهزم القرامطة وفارقوا بغداد ووقعت حرب بين الديلم والعامة قتل فيها جماعة من حد نهر طابق إلى القنطرة الجديدة. وفي آخر شعبان زاد البلاء على الناس فكبسوا منازلهم ليلًا ونهارًا واستتر أكثر العمال لعظيم ما طولبوا به مما ليس في السواد وافترق الناس فخرج الناس وأصحاب السلطان إلى قرب من بغداد فحصدوا ما استحصدوا من الحنطة والشعير وحملوه بسنبله إلى منازلهم وكان مع ذلك ينهب ويعسف أهل العراق ويظلمهم ظلمًا لم يسمع بمثله قط والله المستعان. وإنما ذكرنا هذا الفصل ليعلم الظلمة أن أخبارهم تنقل وتبقى على وجه الدهر فربما تركوا الظلم لهذا أن لم يتركوه لله سبحانه وتعالى. وولاية ابن حمدان إمرة الأمراء كان المتقي لله قد أنفذ إلى ناصر الدولة بن حمدان يستمده على البريديين فأرسل أخاه سيف الدولة علي بن عبدالله بن حمدان نجدةً له في جيش كثيف فلقي المتقي وابن رائق بتكريت قد انهزما فخدم سيف الدولة للمتقي خدمة عظيمة وسار معه إلى الموصل ففارقها ناصر الدولة إلى الجانب الشرقي وتوجه نحو معلثايا وترددت الرسل بينه وبين ابن رائق حتى تعاهدا واتفقا فحضر ناصر الدولة ونزل على دجلة بالجانب الشرقي فعبر إليه الأمير أبو منصور بن المتقي وابن رائق يسلمان عليه فنثر الدنانير والدراهم على ولد المتقي فلما أرادوا الانصراف من عنده ركب ابن المتقي وأراد ابن رائق الركوب فقال له ناصر الدولة: تقيم اليوم عندي لنتحدث فيما نفعله فاعتذر ابن رائق بابن المتقي فألح عليه ابن حمدان فاستراب به وجذب كمه من يده فقطعه وأراد الركوب فشب به الفرس فسقط فصاح به ابن حمدان بأصحابه: أقتلوه! فقتلوه وألقوه في دجلة. وأرسل ابن حمدان إلى المتقي يقول: إنه علم أن ابن رائق أراد أن يغتاله ففعل به ما فعل فرد عليه المتقي ردًا جميلًا وأمره بالمسير إليه فسار ابن حمدان إلى المتقي لله فخلع عليه ولقبه ناصر الدولة وجعله أمير الأمراء وذلك مستهل شعبان وخلع على أخيه أبي الحسين علي ولقبه سيف الدولة. وكان قتل ابن رائق يوم الاثنين لتسع بقين من رجب ولما قتل ابن رائق سار الإخشيد من مصر إلى دمشق وكان بها محمد بن يزداد خليفة ابن رائق فاستأمن إلى الإخشيد وسلم إليه دمشق فأقره عليها ثم نقله عنها إلى مصر وجعله على شرطتها ويقال إن لابن رائق شعرًا منه: يصفّر وجهي إذا تأمّله طرفي ويحمرّ وجهه خجلا حتّى كأنّ الذي بوجنته من دم قلبي إليه قد نقلا وقد قيل إنها للراضي بالله وقد تقدم.
لما استولى أبو الحسين البريدي على بغداد وأساء السيرة كما ذكرناه نفرت عنه قلوب الناس العامة والأجناد فلما قتل ابن رائق سارع الجند إلى الهرب من البريدي فهرب خجخج إلى المتقي وكان قد استعمله البريدي على الراذانات وما يليها ثم تحالف توزون ونوشتكين والأتراك على كبس أبي الحسين البريدي فغدر نوشتكين فأعلم البريدي الخبر فاحتاط وأحضر الديلم عنده وقصده توزون فحاربه الديلم وعلم توزون غدر نوشتكين به فعاد ومعه جملة وافرة من الأتراك وسار نحو الموصل خامس رمضان فقوي بهم ابن حمدان وعزم على الانحدار إلى بغداد وتجهز وانحدر هو والمتقي واستعمل على أعمال الخراج والضياع بديار مضر وهي الرها وحران والرقة أبا الحسن علي بن طياب وسيره من الموصل. وكان على ديار مضر أبو الحسين أحمد بن علي بن مقاتل خليفة لابن رائق فاقتتلوا فقتل أبو الحسين بن مقاتل واستولى ابن طياب عليها فلما قارب المتقي لله وناصر الدولة بن حمدان بغداد هرب أبو الحسين منها إلى واسط واضطرت العامة ببغداد ونهب الناس بعضهم بعضًا وكان مقام أبي الحسين ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يومًا ودخل المتقي لله إلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوش كثيرة واستوزر المتقي أبا إسحاق القراريطي وقلد توزون شرطة جانبي بغداد وذلك في شوال.
لما هرب أبو الحسين البريدي إلى واسط ووصل بنو حمدان والمتقي إلى بغداد خرج بنو حمدان عن بغداد نحو واسط وكان أبو الحسين قد سار من واسط إليهم ببغداد فأقام ناصر الدولة بالمدائن وسير أخاه سيف الدولة وابن عمه أبا عبدالله الحسين بن سعيد بن حمدان في الجيش إلى قتال أبي الحسين فالتقوا تحت المدائن بفرسخين واقتتلوا عدة أيام آخرها رابع ذي الحجة وكان توزون وخجخج والأتراك مع ابن حمدان فانهزم سيف الدولة ومن معه إلى المدائن وبها ناصر الدولة فردهم وأضاف إليهم من كان عنده من الجيش فعاودوا القتال فانهزم أبو الحسين البريدي وأسر جماعة من أعيان أصحابه وقتل جماعة وعاد أبو الحسين البريدي منهزمًا إلى واسط ولم يقدر سيف الدولة على اتباعه إليها لما في أصحابه من الوهن والجراح. وكان المتقي قد سير أهله من بغداد إلى سر من رأى فأعادهم وكان أعيان الناس قد هربوا من بغداد فلما انهزم البريدي عادوا إليها وعاد ناصر الدولة بن حمدان إلى بغداد فدخلها ثالث عشر ذي الحجة وبين يديه الأسرى على الجمال ولما استراح سيف الدولة وأصحابه انحدروا من موضع المعركة إلى واسط فرأوا البريديين قد انحدروا إلى البصرة فأقام بواسط ومعه الجيش وسنذكر من أخباره سنة إحدى وثلاثين. ولما عاد ناصر الدولة إلى بغداد نظر في العيار فرآه ناقصًا فأمر بإصلاح الدنانير فضرب دنانير سماها الإبريزية عيارها خير من غيرها فكان الدينار بعشرة دراهم فبيع هذا الدينار
كانت أذربيجان بيد ديسم بن إبراهيم الكردي وكان قد صحب يوسف ابن أبي الساج وخدم وتقدم حتى استولى على أذربيجان وكان يقول بمذهب الشراة هو وأبوه وكان أبوه من أصحاب هارون الشاري فلما قتل هارون هرب إلى أذربيجان وتزوج ابنة رئيس من أكرادها فولدت له ديسم فانضم إلى أبي الساج فارتفع وكبر شأنه وتقدم إلى أن ملك أذربيجان بعد يوسف بن أبي الساج وكان معظم جيوشه الأكراد إلا نفرًا يسيرًا من الديلم من عسكر وشمكير أقاموا عنده حين صحبوه إلى أذربيجان. ثم إن الأكراد تقووا وتحكموا عليه وتغلبوا على بعض قلاعه وأطراف بلاده فرأى أن يستظهر عليهم بالديلم فاستكثر ذلك منهم وكان فيهم صعلوك بن محمد بن مسافر وعلي بن الفضل وغيرهما فأكرمهم ديسم وأحسن إليهم وانتزع من الأكراد ما تغلبوا عليه من بلاده وقبض على جماعة من رؤسائهم. وكان وزيره أبا القاسم علي بن جعفر وهو من أهل أذربيجان فسعى به أعداؤه فأخافه ديسم فهرب إلى الطرم إلى محمد بن مسافر فلما وصل إليه رأى ابنيه وهسوذان والمرزبان قد استوحشا منه واستوليا على بعض قلاعه وكان سبب وحشتهما سوء معاملته معهما ومع غيرهما ثم إنهما قبضا على أبيهما محمد بن مسافر وأخذا أمواله وذخائره وبقي في حصن آخر وحيدًا فريدًا بغير مال ولا عدة فرأى علي بن جعفر الحال فتقرب إلى المرزبان وخدمه وأطمعه في أذربيجان وضمن له تحصيل أموال كثيرة يعرف هو وجوهها فقلده وزارته. وكان يجمعهما مع الذي ذكرنا أنهما كانا من الشيعة فإن علي بن جعفر كان من دعاة الباطنية والمرزبان مشهور بذلك وكان ديسم كما ذكرنا يذهب إلى مذهب الخوارج في بغض علي عليه السلام فنفر عنه من عنده من الديلم وابتدأ علي بن جعفر فكاتب من يعلم أنه يستوحش من ديسم يستميله إلى أن أجابه أكثر أصحابه وفسدت قلوبهم على ديسم وخاصة الديلم وسار المرزبان إلى أذربيجان وسار ديسم إليه فلما التقيا للحرب عاد الديلم إلى المرزبان وتبعهم كثير من الأكراد مستأمنين فحمل المرزبان على ديسم فهرب في طائفة يسيرة من أصحابه إلى أرمينية واعتصم بحاجيق بن الديراني لمودة بينهما فأكرمه واستانف ديسم يؤلف الأكراد وكان أصحابه يشيرون عليه بإبعاد الديلم لمخالفتهم أياه في الجنس والمذهب فعصاهم وملك المرزبان أذربيجان واستقام أمره إلى أن فسد ما بينه وبين وزيره علي ابن جعفر. وكان سبب الوحشة بينهما أن عليًا أساء السيرة مع أصحاب المرزبان فتضافروا عليه فأحس بذلك فاحتال على المرزبان فأطمعه في أموال كثيرة يأخذها له من بلد تبريز فضم إليه جندًا من الديلم وسيرهم إليها فاستمال أهل البلد فعرفهم أن المرزبان إنما سيره إليهم ليأخذ أموالهم وحسن لهم قتل من عندهم من الديلم ومكاتبة ديسم ليقدم عليهم فأجابوه إلى ذلك. وكاتب ديسم ووثب أهل البلد بالديلم فقتلوهم وسار ديسم فيمن اجتمع إليه من العسكر إلى تبريز وكان المرزبان قد ساء إلى من استأمن إليه من الأكراد فلما سمعوا بديسم أنه يريد تبريز ساروا إليه فلما اتصل ذلك بالمرزبان ندم على إيحاش علي بن جعفر ثم جمع عسكره وسار إلى تبريز فتحارب هو وديسم بظاهر تبريز فانهزم ديسم والأكراد وعادوا فتحصنوا بتبريز وحصرهم المرزبان وأخذ في إصلاح علي بن جعفر ومراسلته وبذل له الأيمان على ما يريده فأجابه علي: إنني لا أريد من جميع ما بذلته إلى السلامة وترك العمل فأجابه إلى ذلك وحلف له. واشتد الحصار على ديسم فسار من تبريز إلى أردبيل وخرج علي ابن جعفر إلى المرزبان فساروا إلى أردبيل وترك المرزبان على تبريز من يحصرها وحصر هو ديسم بأردبيل فلما طال الحصار عليه طلب الصلح وراسل المرزبان في ذلك فأجابه إليه فاصطلحا وتسلم المرزبان أردبيل فأكرم ديسم وعظمه ووفى له بما حلف له عليه ثم إن ديسم خاف على نفسه من المرزبان فطلب منه أن يسيره إلى قلعته بالطرم فيكون فيها هو وأهله ويقنع بما يتحصل له منها ولا يكلفه شيئًا آخر ففعل المرزبان ذلك وأقام ديسم بقلعته هو وأهله.
|